الخيال المقاوم- وقود النضال الفلسطيني… وأمل التحرير

على مدار العام المنصرم، تجلى بوضوح أن الغاية النهائية للحكومة الإسرائيلية وحلفائها الغربيين لا تقتصر على استهداف حركة حماس أو فصائل المقاومة الأخرى، بل تتعداها إلى قمع الإرادة الصلبة للشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال والظلم.
إن الأفعال التي ترتكبها إسرائيل تشي بأن هدفها الأسمى هو وأد الطموحات الفلسطينية في تقرير المصير، ولهذا السبب، تصب جهودها المشينة على تدمير الإنسان الفلسطيني، ونسف المجتمع، وتخريب الأرض. فمن ناحية الإنسان، تُمارس الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، والتجويع القاتل. ومن ناحية المجتمع، يجري تدمير ممنهج لكل المؤسسات التعليمية، والصحية، والاقتصادية، والدينية التي تشكل بنيانه.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل إن قرار الكنيست الإسرائيلي بحظر عمليات وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في الضفة الغربية وقطاع غزة، لم يساهم فقط في تفاقم الأزمة الإنسانية المروعة، بل يهدف أيضًا إلى تجريد اللاجئين الفلسطينيين من حقهم في العودة إلى ديارهم وأراضيهم الأصلية. وبات قطاع غزة بالفعل مكانًا غير صالح للحياة البشرية الكريمة.
أما على الصعيد الرسمي العربي، فقد بلغ موقف الخذلان والتخاذل ذروته، حيث بدا وكأنه يهدف إلى القضاء على آمال الشعوب العربية في التضامن والتعاون. لم يقتصر الموقف الرسمي العربي على تجاهل تطلعات الشعوب وتجاوز وجودها، بل يسعى في نهاية المطاف إلى إعادة صياغة قناعاتها المستقبلية تجاه الانتماء والهوية. وقد سلكوا في سبيل تحقيق هذه الغاية مسارات ملتوية من الدعايات المضللة، وإثارة الفتن والنعرات الطائفية، ومصادرة الحريات الأساسية، وهو موضوع يستحق البحث والتدقيق، لأنه – في اعتقادي – يمثل نموذجًا سيحكم مستقبلنا.
ولكن ما لم يدركه المسؤولون العرب – لافتقارهم إلى البصيرة التاريخية – هو أن لفلسطين قدرة فائقة ومستمرة على إعادة تشكيل فهمنا لذواتنا، ونظرتنا إلى الواقع العربي. إن الفهم الأعمق والأكثر دقة للحرب الدائرة يجب أن يأخذ في الاعتبار السياق الأوسع الذي تدور فيه: سياق فلسطيني وعربي وعالمي أيضًا. إنه يتعلق – بشكل أساسي – بروح العالم، كما يختص بالأسئلة الوجودية والسياسية التي طرحت على العرب على مدار العقود الماضية، وإن بصياغات جديدة مثل:
- ما هي طبيعة الدولة ما بعد الاستقلال في علاقتها بمواطنيها، وعلاقتها بالقوى المهيمنة في النظام الدولي؟
- ما هي وضعية الجيوش العربية التي تتمتع بامتيازات ونفقات هائلة، في حين أن معظم دولها – إن لم يكن كلها – تعتمد على قوى خارجية – الولايات المتحدة أساسًا – لتوفير الأمن؟
- ما هي العلاقة بين الانكشاف الخارجي وتراجع مستويات المعيشة الكريمة للمواطنين، ومقدار تمتعهم بالحريات الأساسية؟
- ما هي العلاقة بين النمط الاقتصادي المطروح للمنطقة وسوء توزيع الثروات والدخول والفرص، وتزايد سياسات الإفقار؟
- ما هي العلاقة بين مستويات الأمن الثلاثة: الأمن الإنساني، وأمن الأقطار، والأمن العربي، وهل يمكن توفير أحدهم بمعزل عن الآخرين؟
القائمة تطول، ولكنها تدور حول المحاور الكبرى التي حكمت تفكيرنا ووجودنا السياسي: من الوطن إلى الأسرة ومعنى الأبوة والأمومة فيها، مرورًا بالدين والدولة والجيوش، وأخيرًا وليس آخرًا علاقتنا بالعالم.
إن ما يحدث في غزة ولبنان والضفة الغربية ليس سوى معركة واحدة ضمن الصراع الأوسع الذي يتعلق – في تقديري – بالقدرة على بناء وصيانة الخيال المقاوم أو احتلاله. هذه هي المعركة الحقيقية الدائرة الآن: عندما يتم خيانة الخيال أو تقييده عمدًا بعلاقات الهيمنة والاستغلال والاستعمار.
إن أحد الأهداف الكامنة وراء إطالة أمد الحرب – التي تجاوزت عامًا ولا ندري متى ستتوقف – هو قتل خيالنا المقاوم، واحتلاله. فكما تحتل الأوطان، يحتل الخيال أيضًا. إن ضمور القدرة الجماعية على تخيل مستقبل أفضل غير الوضع الراهن هو المقصد الخفي من وراء التواطؤ الرسمي العربي مع إسرائيل وداعميها الغربيين.
إن إمكانية خلق بدائل لهذه الرؤية الكارثية لا تنشأ إلا من طبقة أو فئة قليلة لا يضرهم من خذلهم، لأنهم يعيشون خارج قيود الدولة الحديثة، وتحرروا من أغلال الوفرة الرأسمالية المادية.
إن الخيال التحرري هو القوة المحركة التي تلهم الناس لتصور مستقبل مختلف، يتجاوز القيود المفروضة عليهم من قبل الأنظمة السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية القائمة. وكان يمكن للطوفان أن يكون – لو حدث التوافق حوله – محاولة جادة من هذا القبيل.
إن المعركة الدائرة في المنطقة لا تتعلق باحتلال الأرض وترتيبات الأمن وتهجير الفلسطينيين فحسب، بل تختص بإرادتنا الجماعية على تحدي الواقع المتردي، وخلق مستقبل مشرق ينعم فيه المواطن العربي بالكرامة والعيش الرغيد.
إن الخيال التحرري يعزز قدرة الناس على التحدي الجماعي للواقع الحالي، وصنع مسارات بديلة للتغيير المنشود. إن القصص التي حفلت بها أحداث الطوفان يمكن أن تقدم رؤى بديلة للوجود والفعل والانتماء، والتي غالبًا ما تنتقد العلاقات القمعية والاستغلالية، وتقترح طرقًا قد نعيش بها حياة أفضل.
معنى الخيال التحرري ومرتكزاته
يركز الخيال المقاوم على إعادة التفكير العميق في القواعد والبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية/ الثقافية من جذورها، وليس مجرد إجراء تحسينات أو تغييرات سطحية.
ويهدف الخيال المقاوم – كما الخيال الراديكالي الذي استقرت دلالاته في الدراسات النقدية – إلى تحدي النظم المهيمنة، مثل: الرأسمالية المتوحشة، والأنظمة التسلطية، والعنصرية البغيضة، والاستعمار البغيض، ويدعو إلى النظر إلى العالم كمساحة رحبة يمكن إعادة تشكيلها وفق قيم العدالة السامية والحرية المنشودة.
إن الخيال المقاوم هو نشاط جماعي ينتج من خلال أفعال تواصلية حوارية بناءة، وليس من خلال امتلاك أو قدرة فردية. إنه يمثل قدرتنا على تصور العالم كما قد يكون عليه بخلاف واقعه المرير، وهو ما يحرك الحركات الناجحة من أجل التغيير الاجتماعي.
إن الخيال المقاوم هو توجه يهدف إلى الوصول إلى جذور المشكلات، وذلك من خلال فهم الأزمات المتداخلة التي تواجه الناس على نطاق عالمي اليوم باعتبارها مترابطة ومنبثقة من الاستغلال والقمع، ويسعى إلى التغيير الجذري بدلًا من الإصلاح السطحي الجزئي. إنه يتحدث عن قدرتنا على خلق واقع آخر أفضل، وخلقه معًا.
الخيال التحرري يعني:
- التحدي العميق للوضع القائم: برفض قبول ما هو موجود على أنه "طبيعي" أو "حتمي".
- إعادة تخيل ما يمكن أن يكون: بتصور طرق بديلة لتنظيم المجتمعات، مثل أنظمة اقتصادية تعاونية، أو هياكل سياسية تشاركية.
- مقاومة اليأس والإحباط: بمواجهة القناعة السائدة بأن التغيير الجذري ضرب من الخيال، من خلال بناء سرديات بديلة تبعث الأمل وتشجع الناس على الإيمان بالإمكانات الكامنة لديهم وفي واقعهم.
تكمن أهمية الخيال المقاوم في قدرته على:
- إعادة صياغة القيم والغايات النبيلة: حين يتيح للحركات المقاومة تحديد أهداف تتجاوز الإصلاحات الشكلية، مثل إنهاء الأنظمة القمعية بالكامل بدلًا من تجميلها وتحسينها.
- بناء التضامن والتكاتف: يعمل كوسيلة لتوحيد الأفراد حول رؤية مشتركة لمستقبل أكثر عدالة وإنسانية.
- إلهام العمل المثمر: يمنح الأفراد شعورًا بالإمكانية والقدرة على تحقيق التغيير، ما يدفعهم للتحرك الفعال.
- كسر القيود الفكرية الخانقة: يمكّن الخيال التحرري السياسيين والنشطاء من تجاوز الحدود التي يفرضها النظام القائم.
إن الخيال المقاوم هو وسيلة أساسية لتحقيق تحول حقيقي وشامل، وهو لا يقتصر على الحلم بالمستقبل المشرق، بل يشمل أيضًا تحويل هذه الأحلام إلى خطط عمل ملموسة، وإستراتيجيات واقعية تساهم في بناء عالم أفضل يسوده السلام والعدل.
المقاومة الفلسطينية كخيال تحرري
توجد علاقة وطيدة بين الخيال التحرري والمقاومة الفلسطينية، حيث تعتمد الحركات الفلسطينية المختلفة، سواء كانت سياسية، ثقافية، أو اجتماعية، على الخيال الراديكالي لتحدي الواقع المفروض المتمثل في الاحتلال الغاشم والاستعمار الاستيطاني المقيت، وتصور مستقبل زاهر يقوم على التحرر الكامل والعدالة الناجزة.
ويتجسد الخيال الراديكالي بشكل جلي في طريقة تفكير الفلسطينيين في حريتهم واستقلالهم، وفي تخيل مجتمع متحرر من براثن الاضطهاد والظلم، حتى في ظل التحديات الهائلة التي تواجههم.
لقد اتخذ الفلسطينيون الخيال المقاوم وسيلة لمجابهة الاستعمار الاستيطاني من خلال:
- تحدي الواقع الاستعماري البغيض: فالخيال الراديكالي يمكّن الفلسطينيين من رؤية أنفسهم خارج الإطار الذي فرضه الاستعمار الإسرائيلي، سواء من خلال تصوراتهم للعودة المظفرة إلى أراضيهم، أو استعادة السيطرة الكاملة على حياتهم ومصيرهم.
- رفض السرديات المهيمنة الزائفة: يشكّل الخيال الراديكالي أداة فاعلة لرفض السردية الصهيونية التي تسعى جاهدة إلى محو الرواية الفلسطينية الأصيلة، وإعادة التأكيد على الحقوق التاريخية الثابتة.
- تصور عودة اللاجئين الحتمية: وذلك من خلال إعادة تصور العودة الجماعية للاجئين الفلسطينيين رغم العقبات السياسية والعملية الجمة.
- الانتفاضات الشعبية المتوالية: تعكس الانتفاضات المتلاحقة القدرة الفائقة على التفكير والعمل بشكل جماعي خارج إطار القوة العسكرية التقليدية، مما يجسد خيالًا راديكاليًا في تنظيم المقاومة الشعبية السلمية.
- حل الدولة الواحدة العادلة: يتبنى بعض المفكرين والنشطاء الفلسطينيين رؤى راديكالية لحل الدولة الواحدة كبديل واقعي عن حل الدولتين المتعثر، مما يعكس خيالًا سياسيًا واعيًا يهدف إلى خلق مجتمع متكافئ تسوده المساواة والعدالة.
- المخيمات كفضاء سياسي وثقافي حيوي: فالمخيمات الفلسطينية ليست مجرد أماكن لإيواء اللاجئين، بل هي مواقع مقاومة وتعبير عن التخيل الجماعي للعودة المنشودة.
يعتمد الشباب الفلسطيني الواعي على الخيال الراديكالي كأداة رئيسية لإعادة تصور هويتهم وممارساتهم اليومية والسياسية والثقافية. وهم عادة ما يستخدمونه لتطوير إستراتيجيات نضالية جديدة تعتمد على التغيير الثقافي والاجتماعي، مثل: المقاومة الرقمية الذكية، والمقاومة الشعبية السلمية، وحملات المقاطعة الفعالة. كما يعتمدون غالبًا على التكنولوجيا الحديثة لتحدي القيود المفروضة عليهم على أرض الواقع، فيعيدون بناء فضاء افتراضي حر يتجاوز الجدران المادية.
يمثل الشباب الفلسطيني قلب الخيال الراديكالي للمقاومة، حيث يبدعون في مقاومة الاحتلال بطرق مبتكرة تتجاوز الأساليب التقليدية، مع التركيز الدائم على بناء مستقبل مشرق يعكس قيم الحرية والعدالة والمساواة. فمن خلال الفن الهادف، والتكنولوجيا المتطورة، والحركات الشعبية الواعية، يظل الخيال الراديكالي قوة دافعة لتحرير فلسطين ومرتكزًا أساسيًا لاستعادة الحقوق المسلوبة.
وفي حين ينظر البعض إلى الخيال المقاوم باعتباره ضربًا من الهروب من الواقع المرير، أو تبريرًا للأخطاء والإخفاقات، فإنه في الواقع سمة تأسيسية جامعة لنضالاتنا اليومية، وهو ما يدعونا إلى التساؤل عن الكيفية التي يمكن بها للطوفان أن يساهم في تشكيله؟ وهو ما سأتناوله بالتفصيل في المقال القادم.